مفكرة الاسلام: التظاهرات التي قامت بها جموع من الشيعة في المدينة المنورة بالقرب من البقيع قطعت السكون والهدوء الذي امتازت به هذا الأرض الطيبة التي يضم ثراها خير من وُري في الثرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده صحبه الكرام.
وقراءة هذه الحادثة تحتاج أن نضعها في إطارها المناسب كي تكتمل الصورة ويتضح الموقف بأبعاده التاريخية والإقليمية, مستحضرين المفاهيم الشريعة والعقدية والأدوات السياسية للإحاطة الدقيقة بهذه الحادثة والوقوف على دلالاتها.
بداية نحتاج استحضار الخلفية التاريخية التي يمكن أن تتنزل عليها هذه الحادثة, فالشيعة ومنذ سنوات خلت يرون في الوجود السني في بلاد الحرمين اغتصابا لهذه الأماكن المقدسة الطيبة,ويرتبون على ذلك حتمية "تطهير هذه الأماكن من النواصب", وإعادتها إلى أحضان "آل البيت".
ونسوق هنا عدة حوادث للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه فقد نشرت مجلة "الشهيد" الإيرانية في عددها46 الصادر بتاريخ 16 شوال 1400هـ ، صورة تمثل الكعبة المشرفة، وإلى جانبها صورة تمثل المسجد الأقصى المبارك، وبينهما صورة يد قابضة على بندقية، وتحتها تعليق نصه "سنحرر القبلتين".
ويقول مرشد الثورة الإيرانية الخوميني في جريدة "كيهان" بتاريخ 4/8/1987م مهددا القائمين على أمر البيت الحرام والمدينة المنورة "سوف نحاسبهم بعون الله في الوقت المناسب، وسوف ننتقم لأبناء إبراهيم من النماردة والشياطين وأبناء قارون".
ويقول في حديث بثته إذاعة طهران بتاريخ 20/7/1988م:"سوف نزيل آلام قلوب شعبنا بالانتقام من أمريكا وآل سعود في وقت مناسب، وسنضع وسم حسرة هذا الجرم الكبير على قلوبهم، ونضع حلاوة في حلق أسر الشهداء بإقامة حفل انتصار الحق، وبتحرير الكعبة من يد الآثمين، سوف نحتل المسجد الحرام".
وصرح الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني باحتلال الحرمين الشريفين، لجريدة "اطلاعات" بتاريخ14/12/ 1987م وقال ما نصه:"إذا كان علماء المسلمين في العالم غير مستعدين لتقبل مسئولية إدارة مكة المكرمة فإن جمهورية إيران الإسلامية لديها الاستعداد للحرب من أجل تحرير هذا المكان المقدس".
ويقول " المرجع الشيعي " حسين الخراساني في كتابه "الإسلام على ضوء التشيع" إن كل شيعي على وجه الأرض يتمنى فتح وتحرير مكة والمدينة وإزالة الحكم الوهابي".
هذه الخلفية التاريخية, يمكن من خلالها رؤية الحادث باعتباره جزء من كل, وحلقة من مخطط يطمح الشيعة في تنفيذه مدفوعين في ذلك بدوافع عقدية مضمونها تكفير السنة واعتبارهم "نواصب", وهو ما يترتب عليه بالضرورة, وفقا للمعتقد الشيعي, اعتبارهم غاصبين ومحتلين لهذه الأماكن المقدسة,ويجب "تطهيرها" منهم حتى ولو بالتحالف مع الأمريكيين وغيرهم من أعداء الإسلام.
وفهم الحداثة التي نقف عندها في ظل هذا السياق التاريخي يتوقف على التدليل على اعتبارها حادثة "موجهه", وليست مجرد حادثة منعزلة عن هذا السياق, أو مجرد انفعال غاضب من مجموعة من الشباب أخذته الحمية في غفلة عن قادته وموجهيه.
وثمة دلائل توحي بدفع قادة الشيعة في المنطقة الشرقية السعودية لهذه الجموع وتحريضهم على إحداث القلاقل والاضطرابات في المدينة الطاهرة, ومنها تحريض المرجع الشيعي "نمر النمر" قبل أربعة أشهر الشيعة للتحرك لإثارة الفتنة في المدينة المنورة وخصوصا البقيع، فقد أخذ يؤجج للفتنة في خطبه مذكرا بأهمية التحريض ودوره في تحقيق الأهداف المرجوة.
وقال في إحدى مواعظه "أدعو نفسي وأحرض جميع المؤمنين وبالخصوص محبي أهل البيت عليهم السلام وبالأخص مواليهم وأتباعهم لتجديد العهد، وعقد العزم، ومضاعفة الجهد للسعي بكل إمكانياتنا, فلنكافح ونجاهد ونناضل ونقاوم من أجل البناء الشامخ قبل مضي قرن على الهدم الغاشم".
أما المرجع الشيعي حسن الصفار فقد ذهب يصب الزيت على النار وتحميل الحكومة في بيانه الذي نشر على موقعه الالكتروني مسئولية أحداث البقيع, محذرا من توجيه اتهامات للموقفين الشيعة المتورطين في هذه الحادثة.
ولا يمكن بحال مع هذا السياق التاريخي والدلالة على دفع قادة الشيعة لأتباعهم في المملكة للقيام بهذه الاضطرابات أن نخلي إيران من المسؤولية, خاصة وأن المرجعيات الشيعية في المملكة السعودية سبق وأعلنت أنها تأتمر بأمر إيران.
فهذا المرجع الشيعي "نمر النمر" سبق وأعلن ولائه المطلق لإيران في خطب جمعة بالمنطقة الشرقية وقال ما نصه:"نحن مع إيران قلبا وقالبا، بكل ما نتمكن منقدرات سواء إعلام أو مال، وهذا ليس دفاعا عن إيران كالدولة بل دفاعا عن قيم السماء،دفاعا عن الحق، ولا نخشى أحدا".
وهذا ما يدعونا إلى فهم هذه الحادثة, بعد سياقها التاريخي والعقدي, في ظل وضعيات إقليمية معقدة, حيث تسعى إيران إلى تكرار نموذجها اللبناني المسمى بحزب الله سواء بنسخته الحالية العسكرية, أو نسخة أخرى ذات مظهر سياسي وديني ومخالب قادرة على هز الاستقرار في الدول التي تريدها,وخاصة في مصر والسعودية’, باعتبارهما أهم دولتين في المنطقة بامكانهما الوقوف أمام المد الشيعي.
ومن هنا فلا يبعد أن تكون العبوات التي انفجرت في حي الحسين بالقاهرة, حيث مقابر "آل البيت", والأصوات التي فُجرت في البقيع كلها من جذر واحد يحقق طموحات الدولة الفارسية المتعددة ومن أهمها, بل وفي مقدمتها, العودة إلى الأماكن المقدسة,وليس بمقدس عندهم أكثر من المقابر سواء في البقيع الطاهر أو في الحسين.
إذن الحادثة تأتي كذلك متسقة تماما مع أبعادها الإقليمية, حيث تسعى إيران لتحقيق طموحاتها السياسية مدفوعة بأبعاد عقدية واضحة لا تخطئها عين.
وإذا كان هذا السياق التاريخي والعقدي والإقليمي يبرز الأهداف الاستراتيجية لهذه الحادثة فثمة أهداف أخرى يمكن أن نسميها بالأهداف التكتيكية يمكن أن ننطلق في رؤيتها من مطالب المرجع الشيعي "نمرالنمر" والذي سبق وأن تقدم بعريضة مطالب للسلطات السعودية, وحذر في حال رفضها من "مصادمات", واعتبر أنه من حقهم الاستفادة من أي قوة خارجية، بما فيها إيران.
فهذا التصريح الأخير يقودنا إلى أهداف هذا التحرك وما قد يتبعه من تحركات شيعية في المملكة وفي غيرها من البلاد العربية السنية, فنحن نراها في صورتها التكتيكية مجملة في هدفين اثنين:
الأول هو الضغط على الأنظمة الحاكمة للحصول على مكاسب ثابتة للشيعة, على نحو ما يطالب به شيعة المملكة من تمثيل المواطنين الشيعة في المناصب العلياكمجلس الوزراء، والسلك الدبلوماسي، وأجهزة الدولة المختلفة، ورفع نسبةمشاركتهم في مجلس الشورى، والسماح ببناء الحوزات والحسينيات والكليات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الدينية،وإزالة كل العقبات التي تمنع ذلك، وتشكيل مجلس للعلماء الشيعة, وضع منهج دين موحد، يُقتصر فيه على المشتركات بين المذاهب، أو وضع المناهجالدينية حسب الغالبية السكانية.
الثاني هو السماح بالتغلغل والنفوذ الإيراني داخل البلاد العربية والسنية بدعوى الدفاع عن "حقوق الشيعة المضطهدين", وليكون هذا الفريق هو الطابور الخامس وقنطرة العبور الإيرانية الفارسية لهذه الدول.
وفي ضوء هذه الأبعاد الثلاثة العقدية والتاريخية والإقليمية والاعتبار للأهداف الاستراتيجية لدولة فارس والرغبات التكتيكية لشيعة الداخل يمكن فهم حادثة البقيع وغيرها من الحوادث المماثلة التي قد تحملها الأيام القادمة الحبلى ربما بمفاجئات غير سارة.